فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه نزل الفرقان، وهو هذا القرآن العظيم على عبده، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأجل أن يكون للعالمين نذيرًا، أي منذرًا، وقد قدمنا مرارًا أن الإنذار هو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف وأن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا كما أوضحناه في أول سورة الأعراف.
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للأسود والأحمر والجن والإنس لدخول الجميع في قوله تعالى: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً} [سبأ: 28] الآية أي أرسلناك للناس كافة أي جميعًا وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] وقوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 3334] وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف: 2932] الآية: وفي قوله تعالى تبارك أقوال لأهل العلم. قال القرطبي: تبارك اختلف في معناه. فقال الفراء هو في العربية بمعنى: تقدس وهما للعظمة، وقال الزجاج، تبارك: تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خيرن وقيل: تبارك: تعالى، وقيل: تعالى عطاؤه: أي زاد وكثر. وقيل المعنى: دام وثبت إنعامه قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق من برك الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء: أي دام ثبتز انتهى محل الغرض من كلام القرطبي.
وقال أبو حيان في البحر المحيط: قال ابن عباس: تبارك لم يزل، ولا يزول: وقال الخليل: تمجد وقال الضحاك: تعظم، وحكى الأصمعي: تباركت عليكم من قول عربي صعد رابية فقال ذلك لأصحابه: أي تعاليت وارتفعت. ففي هذه الأقوال تكون صفة ذات، وقال ابن عباس أيضًا، والحسن والنخعي: هو من البركة، وهو التزايد في الخير من قبله. فالمعنى زاد خيره وعطاؤه وكثر، وعلى هذا يكون صفة فعل. انتهى محل الغرض من كلام أبي حيان.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الأظهر في معنى تبارك بحسب اللغة التي نزل بها القرآن أنه تفاعل من البركة، كما جزم به ابن جرير الطبري، وعليه فمعنى تبارك تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، لأن من تأتي من قبله البركات والخيرات ويدر الأرزاق على الناس هو وحده المتفرد بالعظمة، واستحقاق إخلاص العبادة له، والذي لا تأتي من قبله بركة ولا خير، ولا رزق كالأصنام، وسائر المعبودات من دون الله لا يصح أن يعبد وعبادته كفر مخلد في نار جهنم، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله: {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فابتغوا عِندَ الله الرزق واعبدوه واشكروا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17] وقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السماوات والأرض شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] وقوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذرايات: 5758] وقوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السماء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [غافر: 1314] الآية.
تنبيه:
اعلم أن قوله تبارك فعل جامد لا يتصرف، فلا يأتي منه مضارع، ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا غير ذلك، وهو مما يختص به الله تعالى، فلا يقال لغيره تبارك خلافًا لما تقدم عن الأصمعي، وإسناده تبارك إلى قوله: {الذي نَزَّلَ الفرقان} يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه، كما أوضحناه في أول سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] الاية. وذكرنا الآيات الدالة على ذلك، وإطلاق العرب تبارك مسندًا إلى الله تعالى معروف في كلامهم ومنه قول الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته ** وليس لما أعطيت يا رب مانع

وقول الآخر:
فليس عشيات الحمى برواجع ** لنا أبدًا ما أورق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ** تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] وقوله: الفرقان يعني هذا القرآن العظيم، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل، لأن معنى كونه فرقانًا أنه فارق بين الحق والباطل، وبين الرشد والغي، وقال بعض أهل العلم: المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول، لأنه نزل مفرقًا، ولم ينزل جملة.
واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106] الآية، وقوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] وقوله في هذه الآية الكريمة: نزل بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجمًا منجمًا.
قال بعض أهل العلم: ويدل على ذلك قوله في أول سورة آل عمران: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] الآية. قالوا عبر في نزول القرآن بنزل بالتضعيف لكثرة نزوله وأما التوراة والإنجيل، فقد عبر في نزولهما بأنزل التي لا تدل على تكثير، لأنهما نزلا جملة في وقت واحد، وبعض الآيات لم يعتبر فيه كثرة نزول القرآن كقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] الآية وقوله في هذه الآية على عبده. قال فيه بعض العلماء. ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات، وقد بينا ذلك في أول سورة بني إسرائيل.
قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}.
بدل من الذي في قوله تعالى: {تبارك الذي نزل} وقال بعضهم: هو مرفوع على المدح، وقال بعضهم: هو منصوب على المدح. وقد أثنى جل وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور، هي أدلة قاطعة على عظمته، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له:
الأول منها: أنه هو الذي له ملك السموات والأرض.
والثاني: أنه لم يتخذ ولدًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
والثالث: أنه لا شريك له في ملكه.
والرابع: أنه هو خالق كل شيء.
والخامس: أنه قدر كل شيء خلقه تقديرًا، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر.
أما الأول منها: وهو أنه له ملك السموات والأرض، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة تعالى في سورة المائدة: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} [المائدة: 40] الآية. وقوله تعالى في سورة النور: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وإلى الله المصير} [النور: 42] وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] الآية. وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك، فالملك فيها شامل لملك السموات والأرض، وما بينهما وغير ذلك. كقوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] الآية، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1] الآية: وقوله تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] وقوله تعالى: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [الأنعام: 73] الآية. وقوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدًا معلومة.
وأما الأمر الثاني: وهو كونه تعالى لم يتخذ ولدًا، فقد جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الأخلاص: 34] وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3] وقوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101] الآية. وقوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدًّا أَن دَعَوْا للرحمن وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْدًا} [مريم: 8893] وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 45] وقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء: 40] وقوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون: 91] إلى قوله: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة الكهف وغيرها.